فصل: تفسير الآيات رقم (76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهَرَم -وهو الضعف في الخلقة- كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقد روي عن علي، رضي الله عنه، في أرذل العمر ‏[‏قال‏]‏ خمس وسبعون سنة‏.‏ وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ بعد ما كان عالمًا أصبح لا يدري شيئًا من الفَنَد والخرف؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور، عن شُعَيب، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو‏:‏ ‏"‏أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات‏"‏‏.‏

ورواه مسلم، من حديث هارون الأعور، به‏.‏

وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة‏:‏

سَئمتُ تَكَاليفَ الحيَاة ومَنْ يعشْ *** ثمانينَ عاما -لا أبَالك- يسْأم

رَأيتُ المَنَايا خَبط عَشْواء من تصِبْ *** تمتْه ومَنْ تُخْطئ يُعَمَّرْ فَيهْرَم

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنها عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم‏:‏ ‏"‏لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏"‏‏.‏ فقال تعالى منكرا عليهم‏:‏ إنكم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ يقول‏:‏ لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏

وقال في الرواية الأخرى، عنه‏:‏ فكيف ترضون لي مالا ترضون لأنفسكم‏.‏

وقال مجاهد في هذه الآية‏:‏ هذا مثل الآلهة الباطلة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه، فتعدلون بالله خلقه وعباده‏؟‏ فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله أحق أن ينزه منك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره‏.‏

وعن الحسن البصري قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فَضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بل يبتلي به كلا فيبتلي من بَسَط له، كيف شُكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله‏؟‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ‏}‏

يذكر تعالى نعمه على عبيده، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم ‏[‏وزيهم‏]‏، ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورًا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة، وهم أولاد البنين‏.‏ قاله ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والضحاك، وابن زيد‏.‏

قال شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ هم الولد وولد الولد‏.‏

وقال سُنَيْد‏:‏ حدثنا حجاج عن أبي بكر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك‏.‏ قال جميل‏:‏

حفَد الولائد حَوْلهُن وأسلمت *** بِأكُفِّهن أزِمَّةَ الأجْمَال

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ ابنه وخادمه‏.‏ وقال في رواية‏:‏ الحفدة‏:‏ الأنصار والأعوان والخدام‏.‏

وقال طاوس‏:‏ الحفدة‏:‏ الخدم وكذا قال قتادة، وأبو مالك، والحسن البصري‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة أنه قال‏:‏ الحفدة‏:‏ مَنْ خَدَمَك من ولدك وولد ولدك‏.‏

قال الضحاك‏:‏ إنما كانت العرب يخدمها بنوها‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ يقول‏:‏ بنو امرأة الرجل، ليسوا منه‏.‏ ويقال‏:‏ الحفدة‏:‏ الرجل يعمل بين يدي الرجل، يقال‏:‏ فلان يحفد لنا قال‏:‏ ويزعم رجال أن الحفدة أخْتَان الرجل‏.‏

وهذا ‏[‏القول‏]‏ الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن مسعود، ومسروق، وأبو الضُّحى، وإبراهيم النَّخَعيّ، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، والقُرَظي‏.‏ ورواه عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ هم الأصهار‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى‏:‏ ‏"‏الحَفْد‏"‏ وهو الخدمة، الذي منه قوله في القنوت‏:‏ ‏"‏وإليك نسعى ونحفد‏"‏، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والأصهار والخدم فالنعمة حاصلة بهذا كله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏

قلت‏:‏ فمن جعل ‏{‏وَحَفَدَةً‏}‏ متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد، وأولاد الأولاد، والأصها ر؛ لأنهم أزواج البنات، وأولاد الزوجة، وكما قال الشعبي والضحاك، فإنهم غالبا يكونون تحت كنف الرجل وفي حجْره وفي خدمته‏.‏ وقد يكون هذا هو المراد من قوله ‏[‏عليه الصلاة‏]‏ والسلام في حديث بَصرة بن أكثم‏:‏ ‏"‏والولد عبد لك‏"‏ رواه أبو داود‏.‏

وأما من جعل الحَفَدة هم الخدم فعنده أنه معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ أي‏:‏ وجعل لكم الأزواج والأولاد‏.‏

‏{‏وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ من المطاعم والمشارب‏.‏

ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره‏:‏ ‏{‏أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ وهم‏:‏ الأصنام والأنداد، ‏{‏وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه‏"‏ ألم أزوجك‏؟‏ ألم

أكرمك‏؟‏ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتَرْبع ‏؟‏‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 74‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ‏{‏مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك، أي‏:‏ ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى ‏{‏فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلوا له أندادًا وأشباها وأمثالا ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا الله وأنتم بجهلكم تشركون به غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏

قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن‏:‏ وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير‏.‏

والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن، فهو ينفق منه سرا وجهرا، هو المؤمن‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا‏؟‏

ولما كان الفرق ما بينهما بينا واضحا ظاهرًا لا يجهله إلا كل غبي، قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏ثم قال الله تعالى‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ وهذا أيضًا المراد به الوثن والحق تعالى، يعني‏:‏ أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق

بخير ولا بشيء ، ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال، ولا فعال، وهو مع هذا ‏{‏كَلٌّ‏}‏ أي‏:‏ عيال وكلفة على مولاه، ‏{‏أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ‏}‏ أي‏:‏ يبعثه ‏{‏لا يَأْتِ بِخَيْرٍ‏}‏ ولا ينجح مسعاه ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي‏}‏ من هذه صفاته، ‏{‏وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ‏}‏ أي‏:‏ بالقسط، فقاله حق وفعاله مستقيمة ‏{‏وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وبهذا قال السدي، وقتادة وعطاء الخراساني‏.‏ واختار هذا القول ابن جرير‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ هو مثل للكافر والمؤمن أيضًا، كما تقدم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحسن بن الصباح البزار، حدثنا يحيى بن إسحاق، السَّيْلحيني ، حدثنا حماد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم عن إبراهيم، عن عِكْرِمة، عن يَعْلَى بن أمية، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ نزلت في رجل من قريش وعبده‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏وَضَرَبَ اللَّهُ‏]‏ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ‏[‏لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ‏]‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ هو عثمان بن عفان‏.‏ قال‏:‏ والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال هو‏:‏ مولى لعثمان بن عفان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 79‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء، في علمه غيب السماوات والأرض، واختصاصه بذلك، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه ‏[‏الله‏]‏ تعالى على ما يشاء -وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن، فيكون، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏ أي‏:‏ فيكون ما يريد كطرف العين‏.‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ثم ذكر تعالى منَّتَه على عباده، في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ثم بعد هذا يرزقهم تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار اللاتي بها يحسون المرئيات، والأفئدة -وهي العقول- التي مركزها القلب على الصحيح، وقيل‏:‏ الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها‏.‏ وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زِيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده‏.‏

وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان، ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه، كما جاء في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يقول تعالى‏:‏ من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‏.‏ ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه‏"‏‏.‏

فمعنى الحديث‏:‏ أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل، فلا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله، أي‏:‏ ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعينا بالله في ذلك كله؛ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح، بعد قوله‏:‏ ‏"‏ورجله التي يمشي بها‏"‏‏:‏ ‏"‏فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏

ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحيه بين السماء والأرض، في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى، الذي جعل فيها قوًى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها ويسر الطير لذلك، كما قال تعالى في سورة الملك‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 83‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع، وجعل لهم أيضًا ‏{‏مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا‏}‏ أي‏:‏ من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم، ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا‏}‏ أي‏:‏ الغنم، ‏{‏وَأَوْبَارِهَا‏}‏ أي‏:‏ الإبل، ‏{‏وَأَشْعَارِهَا‏}‏ أي‏:‏ المعز -والضمير عائد على الأنعام- ‏{‏أَثَاثًا‏}‏ أي‏:‏ تتخذون منه أثاثا، وهو المال‏.‏ وقيل‏:‏ المتاع‏.‏ وقيل‏:‏ الثياب والصحيح أعم من هذا كله، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالا وتجارة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الأثاث‏:‏ المتاع‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، والضحاك، وقتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى أجل مسمى ووقت معلوم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ الشجر‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏ أي‏:‏ حصونا ومعاقل، كما ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، ‏{‏وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ‏}‏ كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك، ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم، وما تحتاجون إليه، ليكون -عونًا لكم على طاعته وعبادته، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏

هكذا فسره الجمهور، وقرؤوه بكسر اللام من ‏"‏ تسلمون ‏"‏ أي‏:‏ من الإسلام‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ‏[‏لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏]‏‏}‏ هذه السورة تسمى سورة النِّعَم‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام، عن حَنْظَلة السدوسي، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها ‏"‏تَسلَمون‏"‏ بفتح اللام، يعني من الجراح ‏.‏ رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، عن عباد، وأخرجه ابن جرير من الوجهين، وردَّ هذه القراءة‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏ وما جعل ‏[‏لكم‏]‏ من السهل أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال‏؟‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏ وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏، لعجبهم من ذلك، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه‏؟‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏ وما بقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر‏.‏

وقوله ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ بعد هذا البيان وهذا الامتنان، فلا عليك منهم، ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏}‏ وقد أديته إليهم‏.‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا‏}‏ أي‏:‏ يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره، ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ -كما قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مجاهد؛ أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ قال الأعرابي‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ‏}‏ قال الأعرابي‏:‏ نعم‏.‏ ثم قرأ عليه، كل ذلك يقول الأعرابي‏:‏ نعم، حتى بلغ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ فولى الأعرابي، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84 - 88‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيدا، وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى، ‏{‏ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كما قال‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35، 36‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ أشركوا ‏{‏الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يفتر عنهم ساعة واحدة، ‏{‏وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏و‏]‏ لا يؤخر عنهم، بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فيشرف عُنُق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، فتقول‏:‏ إني وكلت بكل جبار عنيد، الذي جعل مع الله إلهًا آخر، وبكذا وكذا وتذكر أصنافا من الناس، كما جاء في الحديث‏.‏ ثم تنطوي عليهم وتتلقطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 12 -14‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39، 40‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى عن تبرئ آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ‏{‏قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ أي‏:‏ قالت لهم الآلهة‏:‏ كذبتم، ما نحن أمرناكم بعبادتنا‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5، 6‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81، 82‏]‏‏.‏ وقال الخليل عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 52‏]‏ والآيات في هذا كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ‏}‏ -قال قتادة، وعكرمة‏:‏ ذلوا واستسلموا يومئذ، أي‏:‏ استسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏ أي‏:‏ ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 111‏]‏ أي‏:‏ خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت‏.‏

‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجيز‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ عذابا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏]‏ أي‏:‏ ينهون الناس، عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا ‏{‏وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏]‏

وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقد قال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا سُرَيْح بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله‏:‏ ‏{‏زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ‏}‏ قال‏:‏ زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال‏.‏

وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ‏}‏ قال‏:‏ هي خمسة أنهار

فوق العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏

يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ‏}‏ يعني أمته‏.‏

أي‏:‏ اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع‏.‏ وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة ‏"‏النساء‏"‏ فلما وصل إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حسبك‏"‏‏.‏ قال ابن مسعود، رضي الله عنه‏:‏ فالتفت فإذا عيناه تذرفان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ ‏[‏و‏]‏ قد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كل حلال وحرام‏.‏

وقول ابن مسعود‏:‏ أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم‏.‏

‏{‏وَهُدًى‏}‏ أي‏:‏ للقلوب، ‏{‏وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏

وقال الأوزاعي‏:‏ ‏{‏وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ بالسنة‏.‏

ووجه اقتران قوله‏:‏ ‏{‏وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ‏}‏ أن المراد -والله أعلم-‏:‏ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة، ‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92، 93‏]‏، ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 85‏]‏ أي‏:‏ إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة، وسائلك عن أداء ما فرض عليك‏.‏ هذا أحد الأقوال، وهو مُتَّجه حسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏، وقال ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏، وقال ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من شرعية العدل والندب إلى الفضل‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ العدل في هذا الموضع‏:‏ هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا‏.‏ والإحسان‏:‏ أن تكون سريرته أحسن من علانيته‏.‏ والفحشاء والمنكر‏:‏ أن تكون علانيته أحسن من سريرته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏}‏ أي‏:‏ يأمر بصلة الأرحام، كما قال‏:‏ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏}‏ فالفواحش‏:‏ المحرمات‏.‏ والمنكرات‏:‏ ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وأما البغي فهو‏:‏ العدوان على الناس‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ما من ذنب أجدر أن يعجل الله

عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم‏"‏‏.‏

وقوله ‏{‏يَعِظُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏

قال الشعبي، عن شُتَيْر بن شَكَل‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول‏:‏ إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ‏}‏ الآية‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال سعيد عن قتادة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ‏}‏ الآية، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه‏.‏ وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه ‏"‏كتاب معرفة الصحابة‏"‏‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري، حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال‏:‏ بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا‏:‏ أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه‏!‏ قال‏:‏ فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه‏.‏ فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك‏:‏ من أنت‏؟‏ وما أنت ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم تلا عليهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ قالوا‏:‏ اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه‏.‏ فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال‏:‏ إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا‏.‏

وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن، رواه الإمام أحمد‏:‏

حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عبد الله بن عباس قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تجلس‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى ‏[‏السماء‏]‏ فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة‏.‏ فأتبعه بصره حتى توارى في السماء‏.‏ فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال‏:‏ يا محمد، فيما كنت أجالسك‏؟‏ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏وما رأيتني فعلت‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وفطنت لذلك‏؟‏‏"‏ فقال عثمان‏:‏ نعم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس‏"‏‏.‏ قال‏:‏ رسولُ الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما قال لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ قال عثمان‏:‏ فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏ إسناد جيد متصل حسن، قد بُيِّن فيه السماع المتصل‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك، قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هُرَيْم، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏ كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، إذ شَخَصَ بَصره فقال‏:‏ ‏"‏أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ‏[‏وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏]‏‏}‏ ‏.‏

وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91 - 92‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏

وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ ولا تعارض بين هذا وبين قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا ‏[‏وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ‏]‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ أي‏:‏ لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله، عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين ‏:‏ إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏وكفرت عن يميني‏"‏ لا تعارض بين هذا كله، ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ‏[‏وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا‏]‏‏}‏؛ لأن هذه الأيمان، المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ يعني‏:‏ الحِلْف، أي‏:‏ حلْفَ الجاهلية؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد‏:‏

حدثنا عبد الله بن محمد -هو ابن أبي شيبة- حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة، عن زكريا -هو ابن أبي زائدة- عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جُبَيْر بن مطعم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة‏"‏‏.‏

وكذا رواه مسلم، عن ابن أبي شيبة، به‏.‏

ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه‏.‏

وأما ما ورد في الصحيحين، عن عاصم الأحول، عن أنس، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا -فمعناه‏:‏ أنه آخى بينهم، فكانوا يتوارثون به، حتى نسخ الله ذلك والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا أبن أبي ليلى، عن مَزِيدة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ‏}‏ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، ‏{‏وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ البيعة، لا يحملنكم قلة محمد ‏[‏وأصحابه‏]‏ وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جُوَيرية، عن نافع قال‏:‏ لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال‏:‏ أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، فيقال هذه غَدْرة فلان وإن من أعظم الغَدْر -إلا أن يكون الإشراك بالله- أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلم بيني وبينه‏"‏‏.‏ المرفوع منه في الصحيحين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن حذيفة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من شرط لأخيه شرطًا، لا يريد أن يفي له به، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا‏}‏ قال عبد الله بن كثير، والسدّي‏:‏ هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏:‏ هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده‏.‏

وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْكَاثًا‏}‏ يحتمل أن يكون اسم مصدر‏:‏ نقضت غزلها أنكاثا، أي‏:‏ أنقاضا‏.‏ ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان، أي‏:‏ لا تكونوا أنكاثا، جمع نكث من ناكث؛ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خديعة ومكرًا، ‏{‏أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم‏.‏ فنهى الله عن ذلك، لينبه بالأدنى على الأعلى؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى‏.‏

وقد قدمنا -ولله الحمد- في سورة ‏"‏الأنفال‏"‏ قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عَبْسَة‏:‏ الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدرًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها‏"‏‏.‏ فرجع معاوية بالجيش، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ أكثر‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز‏.‏ فنهوا عن ذلك‏.‏ وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد نحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ‏}‏ قال سعيد بن جُبَير‏:‏ يعني بالكثرة‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ أي‏:‏ بأمره إياكم بالوفاء والعهد‏.‏ ‏{‏وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ فيجازى كل عامل بعمله، من خير وشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93 - 96‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ‏}‏ أيها الناس ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ أي‏:‏ لوفق بينكم‏.‏ ولما جعل اختلافا ولا تباغُضَ ولا شحناء ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏، وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطْمير‏.‏

ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرًا، لئلا تَزل قدم بعد ثبوتها‏:‏ مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى، بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عَرَض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي‏:‏ جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه، وحفظ عهده رجاء موعوده؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ‏}‏ أي‏:‏ يفرغ وينقضي، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدَّر مُتَناه، ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ‏}‏ أي‏:‏ وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول، ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ قسم من الرب عز وجل مُتَلقى باللام، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم، أي‏:‏ ويتجاوز عن سيئها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا -وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله -بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة‏.‏

والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت‏.‏ وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب‏.‏

وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه فسرها بالقناعة‏.‏ وكذا قال ابن عباس، وعِكْرِمة، ووهب بن منبه‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أنها السعادة‏.‏

وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة‏:‏ لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا، وقال الضحاك أيضا‏:‏ هي العمل بالطاعة والانشراح بها‏.‏

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏

حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن

أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا، وقَنَّعه الله بما آتاه‏"‏‏.‏ ورواه مسلم، من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به‏.‏

وروى الترمذي والنسائي، من حديث أبي هانئ، عن أبي علي الجنبي عن فضالة بن عُبَيد؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به‏"‏‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا يزيد، حدثنا هَمَّام، عن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ‏[‏ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا‏]‏ حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا‏"‏‏.‏ انفرد بإخراجه مسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98 - 100‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أرادوا قراءة القرآن، أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم‏.‏ وهو أمرُ ندبٍ ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة‏.‏ وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة، لئلا يلبس على القارئ قراءته ويخلط عليه، ويمنعه من التدبر والتفكر، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني‏:‏ أنها تكون بعد التلاوة، واحتجا بهذه الآية‏.‏ ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضًا، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النَّخَعي‏.‏ والصحيح الأول، لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ قال الثوري‏:‏ ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه لا حجة له عليهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 83‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يطيعونه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ اتخذوه وليًا من دون الله‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ أشركوا في عبادة الله تعالى‏.‏ ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي‏:‏ صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه‏:‏ أنه شركهم في الأموال والأولاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101 - 102‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا للرسول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ‏}‏ أي‏:‏ كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ رفعناها وأثبتنا غيرها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏106‏]‏‏.‏

فقال تعالى مجيبا لهم‏:‏ ‏{‏قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ‏}‏ أي‏:‏ جبريل، ‏{‏مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالصدق والعدل، ‏{‏لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم، ‏{‏وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ وجعله هاديا ‏[‏مهديا‏]‏ وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله‏.‏